أخبار

عمرو منير دهب يكتب: مفترق مبادئ

nasdahab@gmail.com

نقول عندما نحتفي بمهنة ونحب أن نضفي عليها بعض هالات القداسة أن تلك المهنة رسالة، وأشهر المهن على هذا الصعيد الطبُ والتدريس، على اعتبار أن رساليّة الدعوة إلى سبيل الله مما هو معلوم في هذا الباب بالضرورة فلا تحتاج إلى تنبيه من القائمين علي أمر الدعوة أو المخاطـَـبين بها.

من اللطيف أن نذكِّر بأن كل مهنة مشروعة رسالة، وإحدى أهم مشكلاتنا في محيطنا الإقليمي قاطبة أننا لا نعتبر العمل رسالة إلا إذا توجّه إلى الجمهور بشكل مكثــّـف وكان مما يؤثــِّر فيه بالتلقــِّـي تأثيراً مباشراً، واشتهر الفن على ذلك بأنه رسالة حتى إذا كان كثير من الفنون مثاراً للجدل في مجتمعاتنا المحافظة لاشتماله كليّاً أو جزئـيـّاً على ما يُـشتبه في مصادمته النصوصَ الشرعية أو ما تواضع عليه الناس من قيم وأعراف.

الكتابة إذن رسالة باعتبارها مهنة مشروعة، ورساليّتها مضاعفة تأسيساً على ما تقدم لكونها تخاطب الناس بلا حواجز وتــُعـنى إلى حدّ كبير بإقامة حوار مع المتلقــِّـي. لكن إلى أيّ حدّ يجب أن يكون الكاتب صاحب مبادئ (فاضلة) ليصبح بإمكانه ممارسة المهنة والنجاح فيها؟ ذلك سؤال مهم، غير أننا نرجئ تفصيل الإجابة عليه إلى سياق لاحق ونفرد هذا المقال للبحث في المنعطفات التي تتبدّل عندها المبادئ والمعتقدات.

مفترق المبادئ حالة أو حادثة لاحقة لتشكُّل المبادئ، فعلى الواحد (الكاتب هنا) أن يتشرّب بعض المبادئ حتى يتسنى له لاحقاً التمتــُّـع بمغامرة الوقوف على مفترقها في امتحان لا تستثني الحياة أحداً منه. وعند الكاتب الذي لا يعوّل كثيراً على فكرة المبادئ في حياته عموماً فإن مفترق المبادئ في حياته المهنية لا يعدو أن يكون سؤالاً إجابته تنحصر في خيارين أو أكثر بقليل، وهي إجابة واضحة بشكل عام وإن يكن الوقوف على الخيارات لذلك النوع من الكُـتــّـاب ضرورة تكتيكية بهدف براغماتي بحت.

مفترق المبادئ لدى الكاتب صاحب المبادئ (الفاضلة) لا يعني بالضرورة شيئاً من قبيل المواجهة بين الخير والشر، فقد يكون الأمر مفاضلة بين خيرين لانتقاء أحسنهما، أو بين شرّين لتجنــُّـب أشدهما استطارة، وقد لا يكون للأمر علاقة حَدِّيّة تقتضي المفاضلة بين الخير والشر بل مجرّد اختيار لاتجاه دون آخر في الفكر أو السياسية أو الفن أو الرياضة أو العلاقات الاجتماعية أو غير ذلك.

محاكم تفتيش القلوب معروفة وملفوظة بما لا يحتاج إلى المزايدة في التنديد بها، ولكنْ أخطرُ منها محاكمُ تفتيش العقول على غير ما نظن في الغالب. ليس من حق أحد أن يحاسب غيره (كاتباً كان أو عدا ذلك) على معتقد اتخذه أو آخر تخلّى عنه لمجرد الدخول في المعتقد الفكري أو الخروج عليه. مناقشة المبادئ تكون بمناقشة ما تنادي به وليس بالحديث عن المؤامرة المفترضة التي يشارك فيها – ظنّاً – من اعتنق المعتقد أو تجرّد منه، لكن افتراض المؤامرة في الدخول إلى المبادئ والمعتقدات والخروج عليها – وفي ما بين العمليتين وقبلهما من الوقوف على مفترقات – ثم محاسبة الناس تأسيساً على تلك الظنون مسألة يصعب مقاومة إغوائها في كل زمان ومكان، ولشيء من ذلك على الأرجح قال شوقي محتفياً بسقراط:

إن الشجاعة في القلوب كثيرة ** ووجدت شجعان العقول قليلا.

يوشك الكاتب أن يكون مواجــَـهـاً بتحدي مفترق المبادئ مع كل موضوع يتناوله، مع اعتبار اختلاف حجم المبدأ الذي يفضي بدوره إلى تقدير فداحة الافتراق وبالتالي عِظـَـم التحدّي. مفترق المبادئ إذن حالة مستمرة لدى الكُــتــّـاب، والأرجح أنها كذلك لدى سائر الناس، ولكن الكاتب ينشر بضاعته على الملأ لذلك فهو مـُـتابـَـع ومفضوح من ثمّ في كل ما يخص مواقفه المبدئية بشكل مستمر.

وعندما يتعلّق الأمر بالمبادئ الجوهرية في الحياة فإن التقلُّب بين المبادئ مما لا يحمده الناس لكاتب، غير أن النقلة الحادّة لكاتب من مبدأ إلى آخر ثم التشبث بالمبدأ الجديد واتخاذ الكاتب تجربته الأولى منطلقاً للانتصار للتجربة الأخيرة مما ينزل منزلاً حسناً عند كثير من القرّاء (من غير أنصار المبدأ المهجور بالتأكيد).

من الجميل أن تكون للواحد مبادئ ينافح دونها، وليس شرطاً أن ينتظم تلك المبادئ حزبٌ أو مدرسة تحت عنوان معروف. الأجمل أن يقف الواحد عند مفترق المبادئ – صغيرها وكبيرها – كلّما واجهه في الحياة بشجاعة، والأكثر جمالاً أن لا نحمِّل المبادئ فوق ما تحتمل من تعقيد القيم التي ينبني عليها عادةً تقديرنا للآخرين في الحياة. والكاتب في كل ذلك هو واحد من الناس، غير أنه تحت مجهر أولئك الناس يُحصون عليه أفكاره كلما نبست لوحة مفاتيح حاسوبه ببنت شفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى