مقالات

عبدالله علي إبراهيم يكتب.. البرهان وحميدتي.. ضجة في صف العسكريين فاجتنبوها

طغى في الأسبوع الماضي نقاش المبارزة بين القائد العام للقوات المسلحة السودانية الفريق أول عبدالفتاح البرهان ونائبه بمجلس السيادة الفريق أول دعم سريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) على ما عداها في الوسائط السودانية.

كان اللافت استعداد دوائر وأفراد مدنية كثيرة لاستقطاب نفسها لطرف دون الآخر في تلك المماحكة. ولا جديد في هذا منذ صار العسكريون فينا لعقود ممن تهوى لهم أفئدة صفوة السياسة، وترهن بهم الخلاص من مآزقنا السياسية.

فقد أفرغت الديكتاتوريات المتطاولة والانقلابات والحركات المسلحة عليها فكرنا السياسي من ملكة النظر المستقل، ومن موقعه الخاص، ليرى أبعد من الإرادات العسكرية. فاعتاد السياسي والمهني في النظام الحاكم وحزبه أن يلجم نفسه بنفسه دون المجازفة برأي يشق درباً غير مطروق. واتصلت هجرة السياسي الصفوي المعارض من حيث هو إلى كهوف الحركات المسلحة آملاً خدمتها بالرأي في شروطها غير المواتية لحرية التعبير.

لم يشقق عضو مجلس السيادة الفريق أول ياسر العطا الكلام، فقال إن خلاف البرهان وحميدتي سياسي. وقد تستغرب أن يخرج للتعبئة السياسية من كره مثل العسكر هذه الخصومة في السياسيين ورماهم بخراب البلد بأثرها. وكانت حماية هذه البلد من وعثاء خصومة السياسيين وفسادهم هو ما انتدب الجيش نفسه له حباً وكرامة.

يقول السودانيون لمن علا صوتهم حجاجاً “عوتهم وقفت”. ولو فحصنا هذه “العوة” المنعقدة فوق رؤوسنا لاتفق لنا أننا ربما بسطنا أمر العسكريين حين نطالبهم بمغادرة ميدان السياسة والعودة لثكناتهم. ومتى صدقنا زعمهم بتخليهم عن السياسة نكون قد بسطنا الأمر لحد السذاجة. فلم يكد يتواضع العسكريون على العودة للثكنات حتى عادوا إلينا لا مختصمين سياسياً فحسب، بل ناشطين لكسبنا كل لصفه أيضاً.

ويبدو أن دخول السياسة ليس كالخروج منها. ففي حكم الاستحالة عودة مؤسسة كالجيش لثكناتها راضية مرضية وهي التي لم تشكل حياتنا عبر نصف قرن منذ استقلالنا في 1956 فحسب، بل تشكلت هي نفسها أيضاً في الأثناء. فلربما صعب عليها هي نفسها أن تتعرف على ذاتها في الثكنات بعيداً من السياسة.

ومتى نظرت في المبارزة بين البرهان حميدتي وجدت خطابها من دارج السياسة ومكرها. فأكد البرهان بلا حاجة أن دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة هو شرطه للمضي في دعم الاتفاق الإطاري الذي تعاقد به مع قوى الحرية والتغيير (المركزي وخلفاؤه) في ديسمبر (كانون الأول) 2022. ويعرف البرهان مع ذلك أن وثيقة الاتفاق الإطاري قضت بدمج الدعم السريع في القوات المسلحة بعبارة لا لبس فيها.

ويبدو أن قوله إن هذا شرطه للمضي في دعم الاتفاق مما أراد به طمأنة عناصر في القوات المسلحة متحفظة على الاتفاق الإطاري. وبعض هذه العناصر سياسية مثل زميله في المجلس السيادي الفريق أول شمس الدين كباشي الذي صرح في جمهرة من الناس بأن الاتفاق الإطاري ضيق لاستبعاده القوى الأخرى. وزاد بأنه لا احترام له للدستور الذي انبنى عليه، وقد وضعه عشرة أنفار. وبعض هذه العناصر مهني لم يرد للمدنيين غز لسانهم في إصلاحات عسكرية وأمنية تطاول الجيش خاصة بتجريده من شركاته ما عدا تلك التي اقتصرت على الصناعات العسكرية والأمنية، والتي ستخضع بدورها لرقابة وزارة المالية.

ومن هذه العناصر المهنية من ظل يستنكر وجود الدعم السريع في حد ذاته من مثل اللواء ركن عبدالباقي بكراوي، قائد سلاح المدرعات في سبتمبر (أيلول) 2021. ولا يزال بكراوي ماثلاً أمام القضاء لاتهامه بانقلاب كان بمثابة احتجاج على الدعم السريع. علاوة على قرار صدر في فبراير (شباط) 2022 خلال زيارة حميدتي لروسيا سحب به الجيش قوات الدعم السريع من عدة نقاط بالخرطوم مع رفع حالة الاستعداد.

مما يستغرب له المرء أن تبدو القوات المسلحة هي التي تنتظر من المدنيين في اتفاقهم الإطاري دمج الدعم السريع بعد 10 سنوات، وقد احتملته شريكاً طارئاً لها في اختصاص احتكار السلاح.

ومع ذلك، لا بد من التنويه بأن القوات المسلحة رفضت قبوله أول نشأته كجسد في داخلها، ولكنه التزمت الصمت وهو يتحول أمام ناظريها من جهاز الأمن والاستخبارات إلى قوة مستقلة بقانون مجاز من المجلس الوطني في يناير (كانون الثاني) 2017. فجعل القانون عليه مجلساً ينشأ بقرار من رئيس الجمهورية عمر البشير، وقتها، ويعين القائد العام له، بل صار قائد الدعم السريع عضواً في اللجنة الأمنية بالخرطوم جنباً إلى جنب مع ضباط الجيش العظام. وهي اللجنة التي تكونت لحماية نظام الإنقاذ من المعارضة في الشارع التي توجت بتظاهرات سبتمبر 2013.

الاتهام قائم على أن الدعم السريع من ضرجها بالدم. وهي نفس اللجنة الأمنية التي قامت بانقلاب 11 يناير 2019 ضد البشير فيما قالت إنه “انحياز للشعب”. وتضامن الجيش والدعم السريع بعد ذلك في مواجهة الحكومة الانتقالية ووضع العصي في عجلاتها حتى انقلبا عليها في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2020.

ولا بد للمرء أن يسأل بعد استعراض هذا التاريخ للدعم السريع والجيش، كيف صار دمج الدعم السريع في القوات المسلحة البند الساخن للأخيرة يقف عليه الاتفاق الإطاري أو يذهب حال سبيله. وللمرء أن يسأل أيضاً كيف اتفق للبرهان بالذات أن يجعل من دمج الدعم السريع شرطه الناجز وهو الذي لم يـتأخر يوماً منذ دخوله ميدان الحكم من تمييز الدعم السريع مستقلاً في المنظومة العسكرية والأمنية. وبلغ تعزيزه أن قال إنه والقوات المسلحة “على قلب رجل واحد”.

وجاء البرهان بعوار السياسيين ممن يتحدثون بجانبي الفم كما يقولون. فاستنكر في خطابه الأخير في بلدة الزاكياب أن يكون للإسلاميين أنصار في الجيش. وقال إن هذا القول مجرد مزايدة. ولم يجف مع ذلك ريقه بعد من كلمته في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 التي وجه فيها تحذيراً شديد اللهجة للإسلاميين أن يبتعدوا عن الجيش قائلاً “كفاكم ثلاثين عاماً في الحكم أعطوا الناس فرصة، ولا تعشموا بأن الجيش سيعيدكم مرة تانية”.

امتص حميدتي، من الجانب الآخر، هجمة البرهان عليه بكياسة. فقال إنهم في الدعم السريع موافقون على ما ورد في الاتفاق الإطاري بخصوص دمجه في القوات المسلحة. فأفرغ الهواء بذلك من كلمته، ولكنه ربما عرف، بفطنة البادية، أن كل قول عن الدمج كلام في كلام “بتوع مدارس”، كما يقول، بعد أن بلاهم لعقد وأكثر. وقال بالموافقة على الدمج فيما يبدو جدلاً، فقد ظل يرفض حتى يونيو (حزيران) 2021 دمج قواته في صفوف الجيش. وتمسك بحقيقة أن الدعم السريع مكون بموجب قانون مجاز من برلمان منتخب. فهو ليس كتيبة أو سرية، في قوله، حتى تلحق بالجيش.

ووراء كلمة حميدتي سياسات يريد أن يخرج بها عن عزلة أو فشل. فبدا تسارع في وتيرة خصومته المكتومة مع الجيش علاوة على فشله في بناء حلف مع زعماء العشائر وفي تأمين دارفور التي في ذمته. فأسمع زعماء الإدارة الأهلية التي كانت عظم ظهر حلفه السياسي، حديثاً صك أسماعهم في لقاء قريب، كما أنه عاد بخفي حنين من دارفور بعد أن سافر إليها مصمماً على ألا يعود إلا وقد عم السلام ربوعها.

ولا يخفى على أحد أن حميدتي طلب منذ أشهر حلفاً مع الثورة بصورة أو أخرى. فبدأ الطلب باستحسان الدستور الانتقالي الذي خرج من مطبخ قوى الحرية والتغيير (المركزي)، ثم بارك الاتفاق الإطاري الذي تأسس على هذا الدستور. وأبدى في أكثر مناسبة تضامنه مع شباب المقاومة على رغم نقدها الذي لا ينتهي للدعم السريع ومطلبها في حله. وبلغ في طلبه هذا الحلف مع الثورة حداً أقصى في كلمته الأخيرة بإعلان ندمه على مشاركته في انقلاب 25 ديسمبر الذي أطاح حكومة الثورة الانتقالية، ناهيك من توجيهه النيران للإسلاميين الذين يريدون للعودة للحكم عن طريق الجيش. وتطابق حميدتي في كل هذا مع برنامج تنتمي لها طائفة أو أخرى من صف الثورة. ويبدو أن هناك من هذا الصف من اشترى العرض.

ربما كانت “عوة” العسكريين السياسية موضوع نظرنا سبباً لنحسن خبرتنا مع هذه العسكرية التي تعقدت أوضاعها حتى ضاقت ذرعاً بنفسها تتوسل بالسياسة إلى الخلاص مما بها. وصدق فيها قولنا “الملوية لا تحل نفسها”. فخلاص البهيمة التي انطوى حبلها عليها في تدخل طرف آخر يفك عقدتها. وهذا خلاف ما فهمت صفوة السياسة عندنا التي لم يخطر لها حيال العوة سوى أن تصطف مع العسكري الذي وقع لها هواه. وهذا أبعد الطرق عن تفكيك ملوية العسكريين.

وأول أبواب عون هؤلاء العسكريين لحلحلة أنفسهم من مأزقهم من موقع مستقل أن نخرج من تبسيط مسألة خروج العسكريين من السياسة إلى علم أفضل بتعقيدها:

– فقد داوم العسكريون عندنا في الحكم لعقود صارت به المؤسسة التي استثمرت فيها الدولة (التي هي الجيش) بما لا يقارن مع بقية المؤسسات. فصارت، كما قال أحدهم، مثل رياضي دأب على ترييض عضلة واحدة من جسده.

– صار للجيش أمة بدلاً من العكس مما مكن لثقافة الطأطأة للمستبد برجاء أن يكون حاسماً قبل أن يكون عادلاً.

– إننا لا نتحدث، حين نتطرق إلى القوات المسلحة، عن كيان عسكري فحسب. فصارت فينا هذه القوات كيانات سياسية واقتصادية لا تتسع لها ثكناتها. كان بوسع جيش الفريق عبود بعد ثورة 1964 أن يعود إلى ثكناته صفر اليدين من أي مؤسسة اقتصادية. ولم يكن بيد جيش الرئيس نميري لدى سقوطه في 1985 سوى منظمة خيرية: ود نميري العسكرية. أما الجيش بعد سقوط البشير فحالة اقتصادية ربما بأكثر منها حالة عسكرية كما تقرأ في “حاميها حراميها” الصادر عن مركز دراسات الدفاع المتقدمة.

 – تنتمي ظاهرة الدعم السريع إلى عصر “الملشنة” التي هي طغم عسكرية في الحكم أو في السوق كالحوثيين، أو “حزب الله”، أو الفرقة الرابعة في سوريا، أو السيلكا في جمهورية أفريقيا الوسطى، أو حفتر في ليبيا. وأصبحت خدمات هذه الميليشيات مطلوبة لقوى محلية وإقليمية وعالمية. فلم يجد الاتحاد الأوروبي مثلاً حرجاً وهو يتعاقد مع الدعم السريع لوقف الهجرة غير الشرعية مثلاً.

تنشأ في الوقت ذاته ظاهرة الحركات المسلحة التي اختلفت عن الجيل الأول من هذه الحركات الذي كان يرغب في احتلال سدة الحكم لبناء نظام اتفق له. فحركات هذا الجيل عازفة عن تحرير كامل الوطن. وتكتفي بتحرير ما يليها من فوق اقتصاده من معادن بالذات. وربما كان هذا هو السبب من وراء تمنع الحركة الشعبية – الحلو وجيش تحرير السودان – عبدالواحد على التفاوض للسلام قبل قبول شروطهما الباكرة في العلمانية أو تقرير المصير.

هذه العوة الواقفة بين القوات المسلحة والدعم السريع مجرد ضوضاء مسلحة فاجتنبوها. وهذا أقصر الطرق لفضها لمواصلة التحول الديمقراطي حقاً.

اندبدنت عربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى