منوعات

الضفاف المنسية.. عودة الحياة لشواطئ الخرطوم

الخرطوم- محمد عبد الباقي
حتى وقت قريب، كانت مدينتا أم درمان والخرطوم بحري غير مكترثتان بالنيل، وهما تعطيانه ظهرهما، تاركتان إياه لصائدي السمك وصانعي المراكب، وللزراعة الريفية وللمقابر أحياناً، وتوليان وجههما شطر الصحاري. كان ذلك نتاج ثقافة الزهد والانصراف عن مباهج الحياة، كما يقول المعماري ومخطط المدن د. الخير عثمان، وقد سجل الخير دهشته لسعة الفراغ من أطراف العمران في بحري لأطرافه في أم درمان، حتى يبدو النيلُ “متدفقاً في ظهر المنازل دون أن يلحظه أحد”.


أخيرا جدا ربما تصالحت أم درمان وبعض أطراف الخرطوم مع النيل “العنصر الوحيد القوي لمقاومة الصحراء” كما قال عنه المنظر المعماري نوربيرغ شولز، وجعلتاه متنفسا مسائيا تحت التشييد والعمران، يرتاده الناس باحتشاد معقول، لكن بأدوات رفاهية قليلة.
وإذا كان الاحتشاد على النيل يتم بسهولة الآن إلا أن أثمانا غالية تم دفعها بالمقابل، أعلاها الموت، وأقلها إشانة السمعة، إذ يتذكر الناس جيداً مقتل الشاب سامر مطلع يوليو عام 2018 بشاطئ نيل أم درمان برصاص أحد أفراد الشرطة، كان ذلك أثناء حملات معتادة تنفذها شرطة النظام العام على شارع النيل، كما يتذكرون آلاف الإساءات التي قيلت بحق رواد النيل، وقد اعترف بها آخر مدير مخابرات في عهد النظام البائد، صلاح عبدالله الشهير بقوش، حين وصف أسباب إندلاع ثورة ديسمبر بأن الحكومة ضيقت على الشباب ومنعتهم ارتياد النيل والنوادي في إشارة إلى السلوك غير الجيد الذي يمارس في شواطئ النيل..
بخلاف سامر، هناك من كان لديهم الكثير من الحظ ولم تصطادهم بنادق العساكر الذين كانوا يفرضون رقابة أخلاقية على شارع النيل وفقاً لتقديراتهم، ولذلك نجوا من الموت، لكنهم قد يشعرون بين الفينة والأخرى بألام مختلفة من بطش السلطة التي كانت تلهبط ظهورهم عندما تقبض عليهم متلبسين بالجلوس في فضاء الشارع أمام أعين المارة.
ممارسات السلطة التي كانت تتم في شارع النيل أصبحت جزء من تاريخ بعيد يتداوله الناس، وهم يجترون أيام حالكات من أيام بطش النظام البائد الذي منح نفسه سلطة تقدير نوايا المرء وهي ما تزال في سريرته ودخيلة نفسه، وشارع النيل في الوقت الحاضر يختلف عنه بالأمس، فأختفت عنه أدوات الخوف التي كانت تنكل بالناس بقوة القانون، وأزدهرت فيه الطمأنينة؛ لكنه بحاجة للكثير من الناس والزيارات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى